

ديناميكيات الصراع في شمال شرقي سوريا
2020-01-07
إدريس خلو:
السياسة هي فن دراسة الممكن؛ وفقاً للصيغ والقواعد النظرية، حيث لا يمكن تجاوز الحقائق الموجودة، وبالتالي يجب الحصول على ما يمكن الحصول عليه وفقدانُ ما يمكن خسارته، في اللعبة السياسية. وحيث لا ثوابت أو نهايات في السياسة، فكل شيء يخضع للتحول والتغيير، والقاموس السياسي يفتقر إلى القيم والفضائل، كنظام، للتحكم في سلوك السياسيين، الذين يديرون مصالح شعوبهم وبلدانهم.
هذه المقدمة التمهيدية، للسياسة ومصالح الدول والكيانات، تقودنا إلى مشاكل الوضع في شمال شرق سوريا، بعد قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب، الذي كان كطعنةٍ في ظهر الحليف الكردي، بعد عامين وأكثر من التمويل والإمدادات العسكرية، هذا الغطاء، حيث أطلقتْ القوّاتِ الكرديةَ، تحت مظلة القوات الديمقراطية السورية "قسد" لمحاربة تنظيم داعش، حتى عُدَّ الكردُ عملاء خاصّين للأمريكيين، على أمل أن يؤدي ذلك إلى مكاسب سياسية داخل سوريا. وهذا قرار الولايات المتحدة المفاجئ، للرئيس ترامب، بالانسحاب من شمال شرق سوريا، وإعطاء الضوء الأخضر للأتراك لعبور الحدود.. في حملة عسكرية، ترافقها فصائل إسلامية متطرفة وموالية لها، ويضع المنطقة والحليف الكردي بين فكّي الكمّاشة؛ حيث الأتراك، من الشمال، والخلايا الإرهابية النائمة في الجنوب، وكذلك حنين النظام؛ عن طريق فرض سيطرته على مناطق شرقي الفرات.
ومع ذلك، فإن تحليل ديناميكيات الصراع، في شمال شرق سوريا، يدلّ على تعقيدات المشهد السوري، وبدءِ فصل آخر في المقاتلين السوريين؛ من خلال تداخل الجهات الفاعلة، الإقليمية والدولية، التي تعقّد الأزمة، في مواجهة هشاشة الحلول السياسية، بالرغم من عملية صياغة الدستور تحت رعاية الأمم المتحدة.
إن القرار الأمريكي بالانسحاب، والتفاهم مع الجانب التركي، والذي كفلَ تركيا باحتلال مناطق أخرى من الجغرافيا السورية، وإقامة وضع جديد في الشمال، هو جوهر القضاء على القدرات الكردية، مدنيّاً وعسكريّاً، والمتطورة في ظروف الحرب، ونقلُ نزاعها مع الكرد إلى الداخل السوري؛ وإحباط تجربة الإدارة الذاتية، مع سعيها الدؤوب في القضاء على أي كيان كردي قد ينشأ في المستقبل، من خلال ما هو على أرض الواقع كأمر واقع، أو من خلال تعديل الدستور؛ وضمان الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الكردي في سوريا، وعلى خطا التصعيد وملء الفراغ في شمال شرق سوريا، والسعي الحثيث لجميع الأطراف.
في صراع لخدمة مصالحها، سارعت روسيا إلى لعب دور نشط في سوريا، والتدخلِ المبكر في الحرب السورية منذ العام 2015 ،ومنعتْ نظام بشار الأسد من السقوط. بالإضافة إلى قدرتها على إدارة التقاطعات مع اللاعبين المؤثّرين في الساحة السورية، فقد سارعت في خطوة، يُنظر إليها كإشارة إلى تراجع أمريكي لصالح روسيا، مما أدى إلى إبرام تلك الاتفاقية (سوتشي) في 22 أكتوبر، ومع موافقة ضمنية من الولايات المتحدة على تقاسم السيطرة، في شمال شرق سوريا، بين تركيا وروسيا، وكامل الشريط الحدودي.
بعد أن سهّلت روسيا عملية سحب الوحدات الكردية على بعد 30 كم من الحدود، وبالنظر إلى المواقع الجديدة في المشهد السوري، نجد أن روسيا أفادت من الارتباك في سياسات الإدارة الأمريكية تجاه سوريا. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل روسيا ستكون قادرة، مع إمكاناتها الاقتصادية المحدودة، على الاستمرار ولعب دور دليل بديل على إمكاناتها العسكرية؟ سيتم الرد على هذا، فقط من خلال مسارات الأزمة السورية.
بينما ظلّ موقفُ الاتحاد الأوروبي، من الأزمة السورية والنزاع المستمر، محصوراً في استراتيجية فرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري، وإصدار بيانات عن أعمال العنف والإغاثة الإنسانية، وبالرغم من مشاركة الأوروبيين في التحالف الدولي ضدّ داعش، بقيت هذه المشاركة رمزية وممثلة في عدد محدود من القوات الفرنسية والبريطانية في شمال شرق الفرات، بالرغم من محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إيجاد دور أوروبي فعّال، في الشرق الأوسط، والصراع المستمر في سوريا بشكل خاص، إلا أن هذه الجهود غير فعالة، وتفتقر إلى التأثير في الأزمة السورية.
بالنظر إلى التشابك والتعقيد الأخير في المشهد الناشئ في شمال شرق سوريا، يتساءل الكثيرون عن مصير الكرد والإدارة الذاتية؛ حول الخيارات والبدائل المحتملة بعد الغزو التركي.
لقد تخلى التحالف، جزئياً، عن الكرد للحفاظ على مصير ثلاثة ملايين كردي وآخرين مثل بقية المكونات في خطر، وبالتالي فإن ديناميكيات الصراع والتحالفات تحولت إلى حصر خيارات الكرد إما لتقديم تنازلات مؤلمة أكثر للنظام السوري، أو بهدف اللجوء إلى خيار مقاومة تركيا، وكلٌّ من الاحتمالين أكثر مرارة من الآخر؛ بعد تغيير قواعد اللعبة العسكرية والسياسية؛ نتيجة تفاهمات سرية بين اللاعبين الكبار في الصراع السوري.