

كُرد سوريا والخيارات الصعبة
2020-01-11
آلان حسن:
بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على الحرب السورية، التي يبدو أن انتهاءها في الجغرافيا تسير بطريقة معاكسة لما بدأت به في العام 2011، فإن المناطق الجنوبية انتهت معاركها قبل غيرها، وتبعتها مناطق الوسط، وبقيت مناطق الشمال تنتظر حروبها الأخيرة وتسوياتها التي يبدو أنها لن تقلّ قسوةً عن المعارك العسكرية. باتت تحالفات فرقاء الحرب السورية تتأرجح بين القوى الإقليمية والدولية المتناقضة، فكُرد سوريا مثلاً تحالفوا مع الحكومة السورية، منذ بداية الحرب السورية، في مواجهة قوى معارضةٍ كانت تهدف إلى إسقاط النظام دون أن تقدّم أي حل عمليّ مسبق للقضية الكُردية في سوريا، الأمر الذي قسّم الكُرد أنفسهم ما بين الدخول في برنامج المعارضة والسير في تحالف مع النظام. اختار حزب الاتحاد الديمقراطي التنسيق مع الحكومة السورية، وأقام إدارة ذاتية مطلع العام 2014 في كل من مناطق الجزيرة وكوباني "عين العرب" وعفرين، وأعقبها بإعلان الفيدرالية الديمقراطية في شمالي سوريا، منتصف العام 2016، ثم إعلان الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا أواخر العام 2018.
القطب الكُردي الثاني كان المجلس الوطني الكُردي، الذي اختار الانضمام إلى أطر المعارضة السورية ممثَّلةً بالمجلس الوطني السوري الذي تأسس العام 2011 ودعا صراحةً إلى إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، كما كان جزءاً من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية المشكَّل في العام 2012. للمجلس علاقات وثيقة مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني (إقليم كردستان العراق ورئيسه مسعود البارزاني)، ولديه قوة عسكرية باسم "بيشمركة روج" مرتبطة بشكل مباشر بقوات بيشمركة كُردستان العراق، وشاركوا في بعض معاركها ضد تنظيم داعش منذ العام 2014. بالإضافة للحزب الديمقراطي التقدمي الكُردي في سوريا (أعرق الأحزاب الكُردية السورية) ورئيسه الراحل عبد الحميد درويش، والذي على علاقة وطيدة مع حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني في العراق، ولديه موقف معتدل من الحكومة السورية.
كان تحالف كُرد سوريا مع الولايات المتحدة الأمريكية مقتصراً على الجانب العسكري، بدءاً من معركة استعادة السيطرة على كوباني أواخر العام 2014 ثم معارك كري سبي "تل أبيض" والرقة والجزء الشرقي من نهر الفرات، وذلك وفق التفاهم الأمريكي – الروسي، حول اقتسام السيطرة على سوريا؛ انطلاقاً من خط نهر الفرات. لم يرافق التحالف العسكري ذاك أيُّ اعتراف سياسي بالإدارة الذاتية، أو تبنٍّ لأيّ مشروع سياسي يخصّ مستقبل سوريا، وكان ذلك وحده كفيلاً بإحداث تخوّف كبير على مستقبل المنطقة، بعد انتهاء المعارك ضد تنظيم داعش.
شكّلَ إعلانُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نيّتَهُ بالانسحاب من سوريا، ربيع العام 2018، تخوفاً كبيراً لدى كُرد سوريا، وما كان لتراجع ترامب عن إعلانه أن يزيل هواجسهم من هجوم تركيّ مشابه لما حدث في عفرين مطلع العام 2018، وعقد مجلس سوريا الديمقراطية (الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية) محادثات مع الحكومة السورية؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنّ تصلّب الجانبين في مواقفهما، والتراجعَ الأمريكي عن الانسحاب آنذاك، أعادا كل شيء إلى ما كان عليه. بقيت الحال كذلك إلى إعلان الرئيس ترامب، أواخر العام 2018، سحبَ قواته من سوريا خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً، فكان ذلك تصريحاً لا يقبل الجدل بانتفاء الأهمية الاستراتيجية لسوريا في الميزان الأمريكي، وبرغم ذلك فقد راهن مجلس سوريا الديمقراطية على تغيير موقف ترامب مرة أخرى، وكان لضغوط وزارة الدفاع الأمريكية دور في تغيير طفيف من موقف الرئيس الأمريكي، وتأجيل عملية الانسحاب وليس إلغاءها، خاصة أنه تزامن مع قرب انتهاء المعارك ضد تنظيم داعش.
كانت الضغوط التركية تزداد شيئاً فشيئاً لإبعاد عناصر وحدات حماية الشعب الكُردية عن حدودها، وإفشال تجربة الإدارة الذاتية، قبل أن يطرأ تغيير ما في الموقف الأمريكي ويُعترَفَ بها سياسياً. الموقف الأمريكي الثالث برغبة الانسحاب، الذي تزامن مع بدء العملية العسكرية التركية خلال هذا الشهر، لم يترك مجالاً لقوات سوريا الديمقراطية سوى عقد اتفاق عسكري سريع مع الحكومة السورية، وبرعاية روسية، أفضى إلى انتشار الجيش السوري على الشريط الحدودي مع تركيا، وفي بعض المدن التي كان من المتوقع أن يهاجمها الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له.
لا يمكن المراهنة على دور أمريكي استراتيجي بعد الآن، فالرئيس ترامب جاهر بنيّته على إبقاء عدد قليل من الجنود الأمريكيين في المناطق النفطية (90% من النفط السوري و45% من الغاز) وهذا لا يمكن أن يكون خياراً استراتيجياً في ظل الحاجة الماسة للحكومة السورية إلى هذه الموارد مستقبلاً، والدور الذي من المتوقع أن تلعبه موسكو في شراء هذه الورقة من الولايات المتحدة مقابل ملفاتٍ، قد يكون إخراج الميليشيات الإيرانية أحدها، أو إعطاءِ الشركات الأمريكية امتيازاتٍ نفطيةً، أو حتى مشاركةِ بعض الشركات الأمريكية في إعادة إعمار سوريا.
الحل الأكثر واقعية هو صوغ علاقة جديدة بين مجلس سوريا الديمقراطية والاتحاد الروسي، وتجاوزُ أزمة العلاقة بينهما؛ خصوصاً بعد المناكفات التي تلت انسحاب القوات الروسيّة من مدينة عفرين، إيذاناً ببدء عملية "غصن الزيتون" التركيّة، والحوارُ مع الحكومة السورية لإيجاد حلول وسطية لأزمة شرق الفرات، كالقضية الكُردية التي من المؤكد أنّ حلّها وطنياً سوف يُسهم في تعزيز قوة سوريا وسرعةِ استعادة قوّتها؛ بعد أن أنهكتها الحرب المدمّرة.
روسيا، اليوم، هي الطرف الأقوى في المعادلة السورية، وهي من تمسك بخيوط اللعبة فيها، وعليه فإنّ تجاوزَ الدور الروسي هو مغامرة غير محسوبة النتائج، ورعايتُها أيَّ حوار قادم بين "مسد" ودمشق هي في غاية الأهمية؛ لما لموسكو من نفوذ على الحكومة السورية، من المتوقع أن تستخدمه لفرض نموذج حكم يعطي هامشاً من اللامركزية التي يطالب بها الكُرد، في ظل الموقف المتشدد من الحكومة السورية.