

مآلات السياسة الأمريكية في سوريا
2020-01-27
فريدون قجو
ظهرت في الآونة الأخيرة علامات ترهلٍ إن صحت التسمية في السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصاً منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أصبح الحليف قبل العدو مترقباً لما ستؤول إليها أيامهم المقبلة مع مجيء الرجل الاقتصادي إلى ميدان السياسة والدخول الجديد لواشنطن في دهاليز التجاذبات المعقدة وبالأخص في الشرق الأوسط.
في عالم السياسة وبحسب المعايير والأسس المعروفة والمتبعة في كيفية التعامل مع هكذا مناصب سياسية، وتحديداً السياسات الخارجية، يتم السير على خطىى يتم ترسيمها بشكلٍ دقيقٍ للغاية من قبل مؤسسات الدولة، وبما أن الولايات المتحدة الامريكية عودتنا على قوالب صارمة وتقليدية في سياساتها من خلال عدة رؤساء تولوا إدارة البلاد, فإن التكيف مع تلك السياسات التي كانت مجرد شعاراتٍ براقة أصبحت أمراً معتاداً لدى الجميع خاصةً من قبل المراقبين في الشرق الأوسط،, حيث كان التكهن في أي موقفٍ رسمي يُطرح من قبل أمريكا متوقعاً لأي شخص مهتم بالسياسة العامة للولايات المتحدة في مرحلة ما قبل ترامب.
إلا أن الرئيس الحالي دونالد ترامب قَلَبَ تلك الموازين رأساً على عقب ليفضح وبكل جرأة جميع المجريات التي تحدث في أروقة السياسة الأمريكية، معلناً المباح والسري الذي لم نتعود عليه سابقاً ويضع بلاده أمام تحدياتٍ دولية، في تحركاتٍ أحرجت إدارته وخصومه الديمقراطيين وحتى الوسط في الداخل الأمريكي. وقد يكون المستفيد من هذا النهج الصريح العدو قبل الصديق.
ويبدو أن ترامب أخطأ في البداية عندما أعلن مدةً زمنية للانسحاب من سوريا، هذا البلد الذي يستباح يومياً من قبل الايرانيين ألدّ أعدائه في المنطقة، الأمر الذي شكّل إرباكاً وخوفاً لدى إسرائيل التي تعتبر الطفل المدلل للولايات المتحدة من تمدد إيران في المنطقة، إلى جانب مخاوف بلدان الخليج من الخطر المحدق بأوطانهم حيث أن أي انسحاب أمريكي غير مدروس من شأنه زعزعة التوازن الإقليمي.
وهنا بدأ خصوم ترامب الديمقراطيين في اللعب على تناقضات مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، وطالما كان المشهد السوري من أبرز أوراق اللعب لدى الديمقراطيين داخل الكونغرس الأمريكي وخارجه، وبالتالي الضغط على ترامب وتصريحاته الأخيرة في الانسحاب من سوريا البلد الذي احتدمت فيه صراعات قطبي السياسة العالمية. هذه العوامل مجتمعةً أجبرت ترامب على أدراك الموقف، ليعود ويسيطر على الأوضاع مستفيداً من مخاوف حلفائه والاستحواذ على ما يريد وبكل سهولة. وبذلك تراجع عن مسألة الانسحاب من سوريا والبقاء في منطقة جغرافية معينة قد تكون لها دلالاتٌ استراتيجية طويلة المدى.
لكن القرارات الأمريكية المتخبطة التي يصدرها ترامب تؤثر، لا بل أثرت فعلياً، على علاقات بلاده مع الحلفاء الاستراتيجيين بشكلٍ أو بآخر، وبات المشهد أكثر تعقيداَ في كيفية التعامل مع الحلفاء المخلصين لأمريكا، حيث شعر حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط بجدية وخطورة هذا التحول المفاجئ في السياسة الأمريكية تجاههم، إلا أن رجل الاقتصاد (ترامب) كان حاضراً لهذا المشهد، منطلقاً من مبدأ قوة بلاده العسكرية وإرغام أصحاب المال في الرضوخ لمطالبه والاستمرار في التحالف في آن واحد.
سياسات ترامب غير المدروسة بدأت تأخذ أبعاداً أخرى من شأنها التأثير على هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي خلقت نوعاً من الاستياء في الأوساط الأمريكية، لترتفع أصواتٌ مناوئة لسياسات أمريكا الخارجية والعودة إلى ما اعتادوا عليه من خلال الأسس والمعايير المتبعة تاريخياً في التعامل مع الحلفاء أولاً ثم الأعداء.
ومن خلال متابعة الحملات الإنتخابية لبعض المرشحين الديمقراطيين للانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر\تشرين الثاني المقبل، نرى بأن معظم المتنافسين على البطاقة الديمقراطية للرئاسة يستخدمون موضوع سياسة ترامب الخاطئة في سوريا كدليل على فشل الرئيس الحالي في إدارة ملفات ساخنة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى حول العالم.
بالعودة إلى الوضع السوري، يتبين لنا بأن المشهد أصبح معقداً للغاية نتيجة السياسات المتذبذبة التي تتبعها أمريكا، والتي جعلت من روسيا المستفيد الأول، روسيا التي استطاعت أن تحصل على موطئ قدم في المنطقة الكردية بعد انسحاب الولايات المتحدة من بعض المدن والبلدات الكردية. وبعد التدخل التركي في تل أبيض ورأس العين، استمرت موسكو في محاولات السيطرة وبسط النفوذ في المنطقة الكردية الحيوية بالنسبة لهم. وتداركاً لخطورة التمدد الروسي، يبدو أن الولايات المتحدة تحاول بطريقة أخرى البقاء في المنطقة والحد من النفوذ الروسي المتزايد.
في هذه المحطة المفصلية نرى بأن الرأي العام الأمريكي وقف بالضد من سياسات ترامب في سوريا وطالب بشكل فعال بعدم الاستمرار في تلك السياسة الخاطئة، مما أُضطر ترامب على الرضوخ لمصدر التشريع في بلاده، الكونغرس، وقرر البقاء لأجلٍ غير مسمى في سوريا، الأمر الذي شكّل ارتياحاً لدى حلفاء واشنطن في المنطقة، لا بل شعوب ومكونات المجتمع التي حسبت ألف حساب من الانسحاب الامريكي وعودة النظام السوري مدعوماً من روسيا، كما شعرت حلفاء أمريكا في المنطقة بالاطمئنان من البقاء الأمريكي في سوريا، لتبدأ من جهتها بإعادة ترتيب الأوراق من جديد.
تجاذباتٌ سياسية معقدة المعالم تشهدها سوريا بعد مضي تسعة أعوامٍ على انطلاق ثورة شعبية ضد النظام الحاكم، في ظل تطورات قد تُبقي الأوضاع الراهنة لفتراتٍ أطول وتصبح مناطق نفوذ القوى الدولية التي تسيطر على مساحاتٍ كبيرة من البلاد أمراً واقعاً في المستقبل.
في هذه المرحلة المهمة، لابد من الإشارة إلى أن أي تغييرٍ عسكري يطرأ على منطقة ما في سوريا من شأنها التأثير على مصير المناطق الأخرى في البلاد، على عكس ما كانت الأمور عليها قبل عامين على الأقل، حيث أن النزاع في تلك الفترة كان ذو طابع محلي/ مناطقي في كل بقعة جغرافية من البلاد.