

في زمن الكورونا كُلنا مُصابون بـــ (الپارانويا)
2020-03-31
الكاتب: برين دهوكي
على مدى التاريخ، شهدت الأرض الكثير من تفشي الأوبئة والأمراض التي دمرت البشرية، وغيرت مسار التاريخ، إلى مسار أكثر وحشية، كما يحدث الآن مع الفيروس التاجي (كورونا / COVID 19)، الذي ينشر خيوطه على الكون بأكمله كشبكة عنكبوتية، وشلّ حركته بالكامل على عكس ما سبقه من أوبئة التي كانت تصيب أماكن دون أخرى؛ ولا يوقف حركة العالم ككل، انما جزء منه فقط. لكن بالرغم من الاختلاف، هناك ما يجمع بين جميع هذه الأمراض سواءً كانت (فاشية أو وباء أو جائحة) منذ بداية ظهورها وحتى الآن. وهي الاستجابة البشرية لها عند ظهورها والتي يمكن تعريفها اصطلاحاً بــ (الپارانويا)، التي تعمل على تفشي مرض نفسي إلى جانب الوباء المنتشر، مما يثيره من خوف وسلوك غير منتظم، وحتى بعد انتهاء هذه الأمراض، إلا إن ظِلها يبقى راسخاً في عقول البشر، يُعبّرون عنها بخوف من خلال القصص والحكايات، كمرض الطاعون الأسود منذ القرن الرابع عشر، الذي يُذكر حتى الآن.
الپارانويا أو جنون الارتياب
هي حالة مرضية ذهنية نتيجة اعتقاد باطل يتشبث به المريض على أساس منطق غير صحيح. واضطراب عقلي يتميز مُصابه بالشك والارتياب والشعور بالاضطهاد، ومن أهم أعراضه (الخوف من حدوث شيء سيء – الظن بأن المسؤولية تقع على الآخرين – الاعتقاد المبالغ فيه والغير واقعي). وينمو هذا المرض بشكل تدريجي حتى يصبح مزمناً، ويبدو أنه يشتد عند حدوث أي وباء، وهو ما نلاحظه الآن عند انتشار الفيروس التاجي COVID-19. فعند إدراك أي خطر. يدق الجميع ناقوس الخطر ولكن بشكل خاطئ، كقول (قاتل وغير مرئي، لا نستطيع الحماية منه، الحكومة لا تسيطر على الوضع) متجاهلين العنصر الأساسي كاتباع الاجراءات الوقائية للحماية. فردود الفعل الخاطئة تؤدي لظهور أزمة جديدة لا تختلف عن (الوباء). فالخوف من الفيروس التاجي كوباء ليس بجديد، إنما متجذر منذ الماضي، فالطاعون الذي أفنى ملايين الأرواح من أوروبا، في منتصف القرن الرابع عشر، يليه لاحقاً التيفوس والجدري والكوليرا، وغيرها من الأمراض وآخرها الآن (الكورونا COVID-19)، اظهروا ضعف البشر.
فمع اشتداد الفيروس يشتد معه "رُهاب الخوف" مما يصيب البلد ككل بجنون الارتياب، في الوقت الذي يصيب فيه مرض الوباء جزء منه فقط، مما يعني اصابتنا جميعا بـــ (البارانويا) والتي بدأت تظهر أعراضه وهي:
القلق من التهديد الجديد
كثيراً ما يتعرض البشر لتهديدات تودي بحياتهم سواء كانت نتيجة حروب أو أمراض مألوفة، على سبيل المثال (الإنفلونزا العادية / الرشح) الذي يسبب بموت ما يقارب 650 ألف سنوياً من البشر بحسب الصحة العالمية، إلا أن نسبة الناجين من هذا المرض ولو كانت قليلة، يجعل الناس تجده أمراً غير مقلق، ومرض موسمي، ولا خوف من مخالطة أي مصاب به.
لكن الدراسات والأبحاث الحديثة تشير إن المخاوف تزداد مع ظهور أي تهديد جديد، مثل (ايبولا وانفلونزا الطيور والسارس وحالياً (كورونا / COVID 19)، ويكون رد الفعل على عكس المرض المألوف كالإنفلونزا الاعتيادية كما ذُكر أعلاه، فالفيروس الجديد يضع الناس في حالة يقظة تامة، واكتساب معلومات ذاتية، من خلال سماع الكثير وقراءة الكثير وتفسير كل ما سبق على أنه تهديد خطير. فالعاطفة دائماً ما تضاعف شعورنا بالخطر، لدرجة القلق الشديد من الأحداث الكارثية وغير المتوقعة، كما يحصل الآن بانتشار فيروس كورونا التاجي، وذلك نتيجة التعامل السيء مع هذا النوع وعدم القدرة على احتوائه لدرجة التنبؤ" بانعدام السيطرة"، لتنتهي بما يمكننا تسميته "شراء الذعر" لأنفسنا.
رُهاب الأجانب
يتغذى الخوف بشكل أكبر عندما يتم استخدم أساليب تقييدية لمكافحة العدوى كالحجْر الصحي والعزل لحماية صحة السكان، وهي أساليب ناجعة للحد من انتشار الفيروس، إلا ان الخوف يزداد أكثر عندما يتم اتهام آخرين على أنهم مشبوهين وناقلين للفيروس، وتكون النتيجة بظهور حالات التنمر. فعندما يشير الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى فيروس كورونا على أنه " فيروس صيني"، فهو يسعى لنشر "رهاب الأجانب" يسعى من خلالها التشفي واللوم على طرف آخر، وهذه الحالة ليست بجديدة. فعندما ظهر ما يسمى "انفلونزا هونج كونج" بين عامي 1968 و1969 تسبب بوفاة ما يقارب 100 ألف حالة في الولايات المتحدة، وإجمالي العالم ما يقارب المليون، نصفهم من هونج كونج. عندها بدأت تظهر إعلانات في الولايات المتحدة عليها عبارات "انفلونزا هونغ كونغ ليس أمريكي، أمسك أي شيء صنع في الولايات المتحدة". في إشارة لتخويف الناس من أي منتج غير وطني.
وكذلك الأمر عند تفشي مرض السارس، الذي ظهر في الصين في كانون الأول 2002، وبحلول تموز 2003، انتشر لأكثر من ثلاثين دولة. وكان من نتائجها أن الاشخاص الذي ينتمون لأصول آسيوية وخاصةً في جزئها الشرقي، عُرضةً للشبهات بغض النظر عن جنسيتهم، وناقلين للعدوى، ومصدر قلق للسكان من الدول الأخرى. مما يولد إحدى أعراض (الپارانويا) بإلقاء المسؤولية على الآخرين وخلق "رُهاب الأجانب". فعند تفشي مرض (كورونا COVID-19) في ووهان الصينية (بؤرة المرض)، بدأت العواطف تنحاز لخيارات سريعة وغير عقلانية تجاه مجموعة من الناس وخلق حالة من التنمر، وهو ما شاهدناه مؤخراً في وسائل الإعلام لما تعرض له الصينيين من تنمر في بعض الدول العربية والأوروبية على أنهم كورونا متنقل، الأمر الذي يعزز العنصرية بين البشر.
الكورونا ينشّط الپارانويا عند الجميع
ربما تكون التكنولوجيا الرقمية والعولمة قد ربطت العالم بشبكة واحدة، إلا أنها لم تضبط الخوف الأساسي من الأوبئة، التي أودت بحياة البشر منذ آلاف السنين. فحالات الطوارئ والإغلاق العام بسبب هذا الفيروس التاجي، عكس مدى ضعف وهشاشة دول الغرب في مواجهة أي وباء بعصرنا الحالي، وغيّر تموضع مراكز ودور هذه الدول، وكسر غرورهم، فلا جدار مرتفع أو سلك شائك أو مياه تكفي لمنع انتقال الفيروس، حتى بين أقوى البلدان.
بل إن هذا الفيروس قد قوّض الاستحقاق والازدهار للجميع، على عكس ما حصل سابقاً، مثل الأوبئة التي تعرضت لها بعض الدول سابقاً، لم تعبر رهابها الحدود إلى الدول الأخرى (الغير مصابة أو التي سجلت إصابات قليلة)، ولم تقوّض حياتها بإغلاق حاناتها ومسارحها ورحلاتها، وشركاتها ومدارسها. إلا إن هذا الفيروس (كورونا CORONA-19) غيّر القواعد، وطبّق الافتراضات والتوقعات التي من شأنها تغيير الحياة الطبيعية للجميع.
فالواقع الآن يَفرض على الجميع العمل لتجاوز هذا الوباء وغيره. فالفيروس لا يختار ضحاياه انتقائياً، ولا يبحث عن جنس أو طبقة أو عرق بذاته، فقد يفتك بأي أحد، ويترك الآخر.
كيف نحد من هذا المرض؟
إن احتواء الخوف أو ما يُعرف بــ (الپارانويا)، يعتبر جزء لا يتجزأ من إدارة الصحة العامة لمواجهة مرض جديد وناشئ، يتم تحقيقه باتباع استراتيجية تعالج احتياجات السكان المُعرضين لخطر الوباء من خلال:
- كسب الثقة: فبحسب علم النفس الثقة بين الجمهور والحكومة أمر ضروري لاحتواء هذا الارتياب.
- التغطية الإعلامية المُفيدة اجتماعياً: أحياناً التغطية الإعلامية لأي حدث تزيد من تفاقم الوضع إذا لم تكُن متوازنة، فالأسطورة تقول إن الناس يميلون إلى الاستجابة للأخبار التي تثير الذعر والهلع أكثر من السارّة، فعند انتشار أي وباء يبدأ الاعلام بالبحث عن أعداد المصابين والمتوفين أكثر من المتعافين منه، لذا أصبح الناس يبحثون مع هذه الوسائل عن أعداد الإصابات وخطورة المرض دون التفكير بأعداد المتعافين وتراجع خطورته.
لذا تغطية وسائل الاعلام للوباء بطرق مختلفة تعتبر أداة مفيدة لتحفيز الاحتياط والوقاية. فالهدف منها تسليط الضوء على ظروف الوباء وعدم تسليط الضوء على ما يثير الرعب فقط، بل تسليط الضوء على شرائح أخرى، كاللاجئين، وضحايا النزاعات العالمية، لتنبيه الرأي العام حول محدودية الحصول على الرعاية الصحية لهؤلاء، وافتقارها للمستويات المطلوبة للحصول على أو اللقاح اللازم لمناعة القطيع من العدوى.
- اجراءات احترازية مسبقة: التأخير لتوعية الناس حول مواجهة أي وباء جديد، من شأنه يزيد من مخاوفهم. نتيجة ردّ الفعل والبحث عن أعداد الوفيات ومدى انتشاره والتفكير بأنه "الفناء الأعظم" كما حصل عند انتشار "الموت الأسود" في أوروبا. وما يحصل الآن من الانتشار السريع لفيروس كورونا، أصبح أغلب الناس يرون إن نصائح غسل اليدين الاعتيادية ما هي إلا إجراء وقائي جديد. كونه من الصعب أن تقنع الناس ما أنت مقتنع به بالسرعة التي تريد.
لكن عند توعية الناس مسبقاً دون أن يكون المجتمع في حالة وباء، يساعد على الحد من الذعر، ورد الفعل المفرط عند ظهور الوباء أو أي تهديد جديد كما حصل أعلاه. فعند نُصح الناس بغسل أيديهم باستمرار وأساليب التعقيم قبل أي وباء، يصبح الأمر أشبه بإجراء طقس لديهم.
- إيصال الرسالة بطريقة إبداعية: عندما ترغب أي جهة لإيصال معلومة ما للجمهور، فهي بحاجة إلى صياغة أو تفسير مختلف لإيصال المعلومة لكي تناسب ادمغتهم، فالطريقة التي يقتنع بها خبراء الصحة والطب، لتجنب أي عدوى (الوباء) من الصعب إيصالها بنفس الفكرة للناس، لذا فهي بحاجة إلى البساطة للتواصل إلى ما يحتاجه الناس.