

إدلب: في انتظار جولة إضافية من العنف.
2020-04-06
الكاتب: عزيز توما
في طريقهِ إلى موسكو مؤخّراً، حملَ الرئيسُ التركي إلى نظيره الرّوسي مزيداً من الملفّات العالقة بين الطّرفين، ولاسيما الملف المُتعلّق بإدلب، حيث تعرَّضتْ قوّاتهُ في شهر شباط المُنصرم 2020 إلى نكسةٍ أودتْ بحياة عشرات من جنوده في جبل الزاوية جنوباً، بضرباتٍ من صواريخ القوات السّورية، وبغطاءٍ غير مُعلَن من حليفها الرّوسي، كان الأمرُ بمثابةِ رسالةٍ واضحةٍ للرّئيس رجب طيب أردوغان، رسالة تضمّنتْ ضرورةَ خفض سقف مطالبهِ، والتّعديل في طبيعة تفاهمات اتفاقات سوتشي وأستانة، والقبول بمُعطيات الواقع الجديد، بعد الضّربة الموجِعة التي سبّبتْ خللاً في العلاقة المُضطربة أصلاً. فالمعطيات الجديدة فرضتْ واقعاً جديداً. بعد محادثاتٍ استمرتْ ست ساعات، توصّل الطّرفان بعد عناءٍ شديدٍ إلى مُكملات لتفاهماتٍ سابقة، كخفض التصعيد على خطوط التّماس في إدلب، وإنشاء ممرّ آمن، بعمق ستة كيلومترات على جانبي طريق حلب – اللاذقية، علاوةً على تسيير دورياتٍ تركية – روسية مشتركة. غير أنَّ ذلك ليس من دون مقابل. فلكي يحافظ بوتين على العلاقة الثنائية معه، في ملفاتٍ عديدةٍ، ومنها بصورةٍ أساسيّةٍ العلاقة الاقتصادية؛ كان لابدّ من أنْ يحافظ نظيره على بعضٍ من ماء الوجه، حين قام بشرْعنة الوجود العسكري التركي في مناطق ((درع الفرات)) و ((غصن الزيتون)) و ((نبع السلام))، مقابل شرْعنة وجود القوات السّورية، في المناطق التي قضمتْها مؤخراً وبتغطية جوية روسية واضحة. لكن اللافت أنّ هناك أموراً أيضاً غامضة، خاصة فيما يتعلّق بعدم توافر أي تفاصيل، بشأن التّنفيذ المُزمَع والبدء اللاحق في المُحادثات ذات الطّبيعة العسكرية حول كيفيّة استحداث الممرّ الآمن، وكذلك الملف الشائك الذي يؤرّق الجانب التركي، ألا وهو ملف شمال شرق الفرات الخاضع لسيطرة (قوات سورية الديمقراطية)، والمُتمتّع بإدارةٍ ذاتيةٍ مستقلة. في هذا الملف تحديداً، قد يكون هناك ضوءٌ أخضرٌ ضمني من القيادة الروسية، لقيام تركيا بالهجمات الانتقاميّة للمدن الخاضعة تحت هيمنة قوات سورية الديمقراطية، مثل (كوباني) أو (منبج)، مقابل تراجع سيطرة قوات المُعارضة للأراضي الخاضعة لها، والتزام تركيا بضبط النَّفس إلى مستوياتٍ قياسية، وهذا ما يفسّر ربما الهدوءَ الذي يسبقُ العاصفة، في أوساط الحكومة التركية الرسمية، كما في أوساط المُعارضة الإسلامية المُوالية لها. خصوصاً أنَّ روسيا كانت قد طلبتْ في عام 2019، من قوات سورية الديمقراطية فيما إذا لم تندمج مع الجيش السوري، وتستمر في مساندة الوجود الأمريكي، فإنّها لن تترددَ في دفعِ تركيا إلى مواصلةِ هجماتها.
في موسكو، يعلم أردوغان تماماً أنْ لا مكان " للّفِّ والدّوران " مع الحليف الروسي فلاديمير بوتين، الذي مازال ينسجُ مواقفه الصارمة على قياس الحقبة السوفيتية. فهو يُتقن اللعبة السياسية عن كثب، ولا يتراجعُ عن الخطّة المرسومة مسبقاً، حتى لو أدى ذلك إلى التّضحية بالمصالح السياسية والاقتصادية المشتركة. وحين أراد أنْ يعقد هذه الجولة من المفاوضات، أرادها أنْ تجري " عمداً "في موسكو وليست في أنقرة، وفي قاعةٍ يتصدّر فيها تمثالُ كاترين الثانية أو ((كاترين العظيمة)) القيصريّة، المعروفةِ بحنكتها، التي وقفتْ طويلاً في وجه المدِّ العثماني، وخاضتْ حروباً معهم عام 1768، ونجحتْ في استرداد جزيرة القرم منهم عام 1771، التمثالُ كان يقفُ شامخاً وراء الوفد التركي، وأمام أعين السُّلطان. كان من المفترض أنْ يأتي القيصرُ إلى استنبول، لعقد قمةٍ رباعيةٍ مع كلٍّ من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، لكن هذا ما لم يحصل؛ لأن استقدام الوفد إلى العاصمة الروسية كان إثباتا لضعف القادة الأتراك، واستجرارهم إلى المَصْيدة، وإذلالهم، واستعدادهم لتقديم تنازلاتٍ مُؤلمة.
الرسالةُ الأخرى التي وجَّهها إلى القمة، تضمّنتْ إرسالَ فرقاطتين روسيتين عبر مضيق بوسفور إلى السواحل السورية، الفرقاطة ((ماكاروف)) والفرقاطة ((غريغوروفيتش))، حيث كان لهما في وقتٍ مضى دوراً كبيراً في توجيهِ ضرباتٍ قاسيةٍ إلى البحريّة العثمانية ما بين عامي 1877 و1878، بالإضافة إلى سفنٍ تحملُ مئات من الجنود والأسلحة والعتاد، وذلك بهدف تعزيز تواجدهم في البحر المتوسط، تحسّباً لوقوع مواجهةٍ ما مع الجانب التركي.
من جهةٍ أخرى، أعلنتْ حكومةُ أردوغان مراراً عزمها على البدء في عملية عسكرية واسعة النطاق، جنباً إلى جنب مع التنظيمات المُسلّحة الرّاديكاليةِ المُواليةِ لها في نهاية شهر شباط، ما لم تنسحبْ القواتُ السّورية إلى ما وراء خطوط اتفاقية سوتشي، تماماً عقب مقتلِ جنودها، لكن هذا ما لم يقع، أولاً، لأنَّ أردوغان يُدرك تماماً الذّهنيّة البوتينية المنحدرة من الذّهنية السّوفيتيّة، وكذلك التّصميم الروسي، ومدى جدّيتهِ في المضي بمشروعهِ حتى النّهاية، ثانياً، يعلمُ هشاشة الدّعم الأوروبي، الذي لم يبدِ استعداداً للدخول في مغامرةٍ غير محسوبة، لمواجهة الجيش الروسي من أجل (( عيون السلطان ))، رغم تحالفهما في الحلف الأطلسي، خصوصاً وأنَّ الاتحاد الأوروبي " ملً " من مُواربات السّلطان الأوتوقراطي العثماني، ومواقفه المُتذبذبة ومن "الابتزاز" المستمر ولاسيما في ما يتعلّقُ بملف الهجرة، ذلك حين قام أردوغان بدفع مئات الآلاف من اللاجئين المقيمين على أراضيه (معظمهم من أصول أسيوية وبصورة أساسية من أفغانستان ) إلى حدود الاتحاد الأوروبي، والحصول على أمولٍ طائلةٍ ( بلغت 6 مليار يورو مقابل تحمله عبء المهاجرين )، إذ أراد بذلك معاقبة الاتحاد على مواقفه غير المساندة له.
بعد كل ما حصل، يبدو أنَّ تركيا مقتنعةٌ تماماً بأنَّ وقف إطلاق النار في إدلب لن يستمر زمناً طويلاً، وأنّ عودة العنف مجدداً هي مسألةُ وقت، ذلك مردُّه إلى تناقضٍ صارخٍ، بين أجندات الأطراف المتنازعة. ربما ستكون الأيام أو الأشهر القادمة حُبلى بالصّراعات والنّزاعات، في الوقت الذي يضربُ فيروس الكورونا معظمَ دول العالم، ويحصدُ يومياً أرواح البشر، غير آبهٍ للحدود القائمة بين الدول. فإذا كانت البلدان المتقدّمةُ التي تمتلك وسائلَ طبية متطورة جداً عاجزةً نسبياً، عن الحدّ من انتشار هذا الوباء، فما الذي يمكنُ أن تفعلهُ الدولُ المُتخلّفة، المبتلية بنزاعاتٍ وحروبٍ "وجودية" لانهاية لها، ولا تتمتّعُ بأية إمكاناتٍ تقنيةٍ على المستوى المنظور لمواجهة هذا المرض الفتاك.
أخيراً، لابد من كلمة، وهي أنَّ غياب ثقافة الإقرار بالآخر المُختلِف يغدو كل شيء مباحاً وممكناً، حتى القتل والحرق والذبح. وإذا كان كل ما يجري هو جزء من هذه الثقافة، فسيكون محرك الرفض هو مزيد من الأحقاد الهذيانية المعادية لقيم الحياة الحرة الكريمة. كيف يمكن تسوية هذا المأزق الشديد الخطورة؟ كيف يمكن التّصالح بين الأنا والأخر؟ هنا، لابد من النزوع إلى التاريخ، لأن كل وعي خارج التاريخ والعيش على إيقاع الماضي الذي يكبح كل تغيير وحق الاختلاف، إيقاع تخطّاه العالمُ تاريخياً، يعني الوقوع في فخّ الجمود والاستبداد. فالتّسوية إذن وقبل كل شيء هي مسألةُ وعي، مسألة الانتقال من الأسطورةِ إلى العقل، فلا يمكنُ الجمعُ بينهما، لأنَّ الأمر يتعلّقُ بنمطين من الرؤيا، ونمطينِ من الحضور في هذا العالم. فهو العقلُ الذي صنعَ الحداثة (تحية إلى كانط)، وهو الذي أرسى مبادئ حقوق الإنسان والمجتمع الحديث المتجانس الذي لا يحتاج إلى جنرالات ورجالات الدولة، حين وقع في صدامٍ مع الإيديولوجيات المُهترئة، اليسارية والدينية، وتخطّاها. فلابدّ إذن، بغيةَ تجاوز هذه النزاعات القائمة، أنْ تكون الحداثة قائمة في تجربة المعاش، وإلا سنشهد مزيداً من العنف والتوتر.