

خطاب الكراهية مقنّعاً
2020-06-20
الكاتب: إبراهيم خليل
من النادر جداً أن تقرأ بياناً سياسياً عدوانياً لا ينطلق من مظلومية مفترضة حتى ولو كان ذلك البيان يهاجم بشكل مباشر جهة مسالمة على وشك التعرض إلى اعتداء من قبل صاحب البيان نفسه أو قد يتعرض "بيان المظلومية" ذاك إلى جهة يتفق العالم بأسره على مظلوميتها التاريخية فيحاول إظهارها بمظهر المعتدي والظالم ومجرم الحرب كما هو حال المعارضة السورية مع الكرد السوريين اليوم.
في السابع من حزيران الجاري, أصدرت مجموعة تسمي نفسها (شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية) بياناً معروضاً للتوقيع موجهاً إلى الرأي العام موقعاً من حوالي ثمانمائة شخص يحملون صفات وألقاب تتوزع بين الدكتور والمحامي والمحلل السياسي والناشط والثوري والتاجر والمواطن والشاعر والنسوي وتاجر المواشي والضابط السابق ومدير المدرسة السابق والسجين السابق... إلخ وتركز البيان حول نقطة واحدة لا غير هي رفض التقارب السياسي الكردي-الكردي الذي انطلق مؤخراً برعاية أمريكية مباشرة.
بعد الديباجة الثورية المعتادة والمزينة بمفردات (الديمقراطية والمواطنة والحرية والقانون والحياة الحرة الكريمة...), يقول البيان حرفياً: (تشير المعلومات المسربة عن التفاهمات ما بين المجلس الوطني الكردي وميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي إلى توافق ما بين الطرفين على إبقاء الإدارة الذاتية المفروضة بالقوة على السوريين كحالة أمر واقع من أجل تطويرها إلى فيدرالية أو حكم ذاتي يهدد وحدة سورية...)
بغض النظر عن لامعقولية صدور بيان سياسي بناء على "معلومات مسرَّبة", لم تستطع الكلمات المنمقة بعناية وحذر أن تخفي النبرة العدائية الوصائية على الشعب السوري كـ "قطيع لا رأي له وعليه انتظار رعاته الجدد" وعلى الكرد كـ "أهل ذمة" استغلوا انشغال "الخليفة" بـ "حرب الروم" فحاولوا الاستقلال بولاياتهم البعيدة عن المركز. وهي نبرة ألفتها آذان السوريين منذ أكثر من نصف قرن.
يمكنك لكل ذي عينين أن يلمح بكل سهولة خلف السطور المدبجة بالعربية ظلال تنظيم "الإخوان المسلمون" وأصابع خليفتهم العثماني الموعود "رجب طيب أردوغان" الذي يكاد كل حرف في البيان يفوح بأفكار حزبه القومو-إسلامي ويفضح مطامعه التاريخية التوسعية التي لم يعد بحاجة إلى إخفائها.
المفارقة المنطقية هنا أن الكثير - وربما معظم- الموقعين على البيان والفارين بـ "ثورتهم" من وجه "طاغية دمشق" يعيشون اليوم في دول ديمقراطية أو فيدرالية لا تهدد الفيدرالية وحدتها كما يهدد مطالبة الكرد بالديمقراطية والفيدرالية وحدة "سورية" التي يرسمها البيان بالتاء المربوطة وفقاً للمرسوم الجمهوري الصادر عن الرئيس السابق حافظ الأسد في تسعينيات القرن الفائت والمعمم بقانون على جميع المطبوعات السورية الرسمية.
يريد البيان باستخدام تعابير مثل الإدارة الذاتية (المفروضة بالقوة على السوريين) والميليشيات الكردية التي (اغتصبت النفط وخيرات البلاد) و قامت بـ (ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين) و (تجاهلها دور الغالبية من العرب والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن والشركس) استعداء عامة السوريين على مواطنيهم الكرد الذين زرع النظام صورتهم في لاوعي السوريين كورم سرطاني غريب عن الجمهورية العربية السورية, ثم يقرن البيان (الفيدرالية والحكم الذاتي) بعبارة (يهدد وحدة سورية) مداعباً الوتر الوحدوي الموهوم ذاته الذي تعيّش عليه حزب البعث الفاشي على مدى أكثر من نصف قرن وألزم به السوريين المغلوبين على أمرهم بشكل بات معه مجرد تفكير السوري باختيار حاكمه أو نوابه أو حتى مختار حيّه ضرباً من الانفصالية والتجزئة.
يتابع البيان أن هذه التفاهمات (تمس بشكل عام مصالح الشعب السوري وتهدد بشكل خاص وجود باقي مكونات المنطقة وأمنهم وعيشهم المشترك) وبالتالي (نستنكر هذه التفاهمات ونرفض مخرجاتها).
يفترض كتبة البيان أن الكرد ليسوا سوريين (وهم كذلك بالجنسية والجغرافيا السياسية على الأقل) وليسوا من مكونات المنطقة وكأن حصولهم على الحكم الذاتي أو الفيدرالية (وهي أقل حقوقهم المشروعة) سيهدد أمن البلاد ويصيب العيش المشترك في مقتل, والعيش المشترك المقصود طبعاً هو ذلك القائم تحت ظل نظام مستبد يطمح كتبة البيان إلى التخلص منه والجلوس مكانه على الكرسي ذاته وبالسلطات والصلاحيات عينها وهذا بالذات لا غيره هو سبب رفضهم لهذا التقارب الكردي الداخلي أعني أنهم يريدون التركة كاملة غير منقوصة.
النقطة الموضوعية الوحيدة التي يمكن تسجيلها للبيان المذكور هي عدم ربطه لهذا التقارب بإسرائيل والصهيونية والامبريالية العالمية ودوائر الماسونية وأعداء الأمة العربية على الأرض وفي المجرات الأخرى.
وعلى إثر صدور البيان مباشرة, نفت بعض الشخصيات والمنظمات الوازنة ممن ورد اسمها في البيان أن تكون قد وقعت عليه وهذه وحدها كافية أن تنزع عن البيان وأصحابه أي مصداقية.
وعلى الجانب الكردي أيضاً, جاء رد "المجلس الوطني الكردي" في العاشر من الشهر نفسه, أي بعد ثلاثة أيام فقط, ببيان مضاد أكد فيه على دخوله في مفاوضات التقارب الكردي-الكردي مع "حزب الاتحاد الديمقراطي" ناعياً على كتبة البيان ومعظمهم شركاؤه في الائتلاف تنظيمياً أو فكرياً (معاداة الكرد ورفض الآخر بمنطق قومي استعلائي مقيت).
وهو رد أقل ما يقال فيه أنه مناسب.
من المحبط أن تجد من بين الموقعين على بيان الشخصيات والتشكيلات السورية في المنطقة الشرقية أسماء بعض الشخصيات الليبرالية واليسارية والحقوقية من قادة الرأي العام أمثال برهان غليون وهيثم المالح وسواهم من مسؤولي منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان التي كان الأمل معقوداً عليها, حتى عهد قريب, في تنظيف الخطاب السياسي السوري من شوائب الدوغمائية والعنصرية والتسلطية وتنقية الفكر السوري من بقايا ذهنية الطهرانية القومية التي أسس لها "البعث" وكان المنتظر من تلك الشخصيات التأصيل لحقوق الإنسان ووضع الأسس العلمية الصحيحة للعيش المشترك بين السوريين المختلفين دينياً أو قومياً ولكن من الواضح أن العيش لمدة طويلة تحت نظام الاستبداد (1963-2020) لا ينسي المواطن طعم الحرية وحسب بل يجعله صورة عن مستبده الذي يكرهه ويعمل ضده في الظاهر بحيث تغدو أقصى أمانيه الأوديبية أن يقتله ليتحرر منه نفسياً لا أن يتجاوزه كنظام ومرحلة.
ومن المؤلم الانزلاق إلى خانة النظام المستبد ضد شريحة تحررية من الشعب السوري رفضت طغيان النظام ومفاسده وحاربت في الوقت نفسه التنظيمات الإرهابية على مدى سنوات ولم يصدر عنها تصرف واحد يشي بالعداء تجاه أحد المكونات السورية الأخرى.
ومن المؤكد أن التوافق الكردي-الكردي خطوة على طريق المصالحة السورية العامة أما خطاب كهذا الوارد في البيان فلن يساعد البتة في استدامة "الاندماج القسري" الذي أراده النظام كما لن يساعد على "الاندماج الطوعي" الذي تريده المعارضة بقدر ما سيساعد على تنامي النزعة الانفصالية في أوساط الرأي العام الكردي السوري ويعزز مكانة الصقور على حساب الحمائم.
أما المضحك في الموضوع كله فهو أن تشتمل قائمة الموقعين على بيان شخصيات وتشكيلات المنطقة الشرقية إلى جانب أسماء غليون والمالح (ممن لم يزوروا المنطقة الشرقية في حياتهم) وسواهم أسماء (قونرش, كوبهنو, كوتانفان, كماري قريج, سركو...) وهي - لمن لا يعرف اللغة الكردية - ليست أسماء إنما ألقاب وصفات تشير إلى مسميات يعفُّ اللسان عن ذكر معانيها ويبدو أن بعض ظرفاء الكرد قد استغفل المسؤولين عن الحملة ووقّع بتلك الأسماء الوهمية إمعاناً في السخرية من البيان وأهله ...