

الديمقراطية في شمال وشرق سوريا ، الإمكانيات و الفرص
2020-07-09
الكاتب : د.عبير حصاف
تتناولُ مقولة المهاتما غاندي: "إن الديمقراطية في نظري إنما تتمثّل في ضرورة أن تتساوى في ظلها الفرص لأضعف الناس وأقواهم "،مفهومَ الديمقراطية بكلماتٍ بسيطة وموجزة، وتعرض حلّاً لواحدةٍ من أعمق وأقدم حالات الصّراع المجتمعي بين القوي والضعيف، الأقلية والأغلبية، الغني والفقير وغيرها من مفاهيم التقسيمات الطبقية المتناقضة، المتسبّبة بضعف الاستقرار والتوازن في المجتمع . ولعلَّ مُصطلَح الديمقراطية يُعتَبر واحداً من أكثر المُصطلحات السّياسيّة تداولاً في النصف الثاني من القرن العشرين ونكاد نسمعه يتكرر بين عبارة وأخرى حتى في أبسط المجالس، دون إيلاء أيّ اهتمام يُذكر لمدى عمق هذه الكلمة أو أهميتها في خلق أرضيّة صلبة تُبنى فوقها جسور الثقة؛ فمنها تستمد المجتمعات استقرارها.
الديمقراطية شكل من أشكال إدارة الشؤون العامة وتعني سلطة الدولة المُستمدَّة من الشعب، ومصطلح الديمقراطية مشتقٌ من كلمتين يونانيتين demos وتعني الشّعب و kratia وتعني الحكم أو السلطة، أي بما معناه "سلطة الشعب " أو حكم الشعب نفسه بنفسه؛ حيث يجتمع المواطنون ويشتركون في اتّخاذ القرارات اللازمة لإدارة الشؤون العامة إما مباشرة أو عن طريق انتخاب ممثّلين ينوبون عنهم في اتّخاذ القرارات. وقد تطوّرت أشكال الديمقراطية مع تطور المجتمعات من ديمقراطيةٍ مباشرة إلى نيابيّة فتعددية، كما أنّها خلقت أشكالاً مختلفة من أنظمة الحكم كالديمقراطيّة الرئاسيّة والتشاركيّة والبرلمانيّة والتمثيليّة والاستبداديّة والاجتماعيّة والليبراليّة وغيرها .
ويصعب تقدير مدى تمتّع مجتمعٍ ما بالديمقراطيّة دون ذِكر عددٍ من العناصر الأساسيّة التي تعتبر الأساس الذي يستند عليه المجتمع الديمقراطي؛ منها وجود المصالح المشتركة والاشتراك في الشّؤون المجتمعيّة والسياسيّة، المقترنةِ بسلطة الأغلبيّة مع مراعاة حقوق الأقليّة والمساواة المطلقة أمام القانون والعدالة القضائيّة، وكل ذلك في ظلّ سيادة احترام حقوق الإنسان؛ فالناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وما يتبع ذلك من تعدديّة سياسيّة وانتخاباتٍ حرّة عادلة ونظام حكمٍ مبنيّ على مبدأ فصل السّلطات والمُساءلة والشّفافيّة التي تعزّز الثّقة وتخلق الأمان. ولكن ربما لايزال مُصطلح الديمقراطيّة مُبهماً ويلفّهُ الغموض؛ فهل هو مصطلحٌ يخصّ السّياسة ونظام الحكم فقط أم أنّه طريقةٌ للعيش، ونهج للحياة يسيرُ وفقهُ المجتمع ليتوّج أخيراً بنظام الحكم؟. وهل بالإمكان أن لا يكون المرءُ ديمقراطياً ضمن إطار أسرته وعلاقاته الشخصية ويتحوّلَ إلى ديمقراطي في اختيار حكّامه وحياته السّياسية، ويخلق التّوازن بين ما يفكّر به وما يقوم به من أعمال؟ فالكل ينعتُ نفسه بالديمقراطيّ؛ الأحزاب والمنظمات والمؤسسات والجمعيات دون أيّ تطبيقٍ فعليّ لعناصر الديمقراطية أو امتثالٍ لشروطها و فهمٍ لفحواها. وبما أنّ الديمقراطية تصبُّ في خانة سيطرة الأغلبية على نظام الحكم ورسم سياسات الدولة ونهجها، فهل تقبلُ تطبيقاً ناجحاً في مجتمعات العالم الثالث التي تفتقر إلى الخبرات، أو تلك التي يسودها الاستبداد وضعف القانون، أو تلك التي لا تزال أسيرة القبليّة والعشائريّة وتطغى عليها السلطة الذكورية؟. من هنا يبدأ الخطر الحقيقي في ممارسة الديمقراطية، فهي سلاح ذو حدين في مجتمعاتٍ متّشحةٍ بالاختلافات ويسودُها التّناقض السّياسي والدّيني والاجتماعي والإثني، وتفرّق أطيافها جدرانٌ متينةٌ من الشّك والعداوة وضعف الثقة.
انطلاقا من هذه الزاوية، تحديداً، كان اتخاذ فلسفة الأمة الديمقراطية في شمال وشرق سوريا تجربةً محفوفةً بالكثير من التحديات في مجتمعٍ غير متجانس مشوبٍ برواسب سياسيّة دينيّة قوميّة واجتماعيّة، خاصةً، عقب الحراك الشعبي الذي بدأ سلميّاً وانتهى أزمةً خانقة، نشرت الدّمار والمزيد من التّفكك في النسيج الاجتماعي السوري، ومن رحم المراهنات على خصوصية المجتمع وتركيبته السكانية المعجونة بالتناقضات في مناطق شمال وشرق سوريا وروج آفا تحديداً، واحتمالية تحوّلها إلى بحرٍ من الدّماء. انبثقَ انتهاج الخط الثالث كخطوةٍ أولية صحيحة لحمايته من طرفي الصراع، النظام والمعارضة، فكلاهما يدّعي الديمقراطية ولا يقبلُ أيّ وجودٍ للشّعب الكردي، وأيّ مشروع يحملُ صبغةً كردية متّهمٌ بالانفصال سلفاً. ومن هنا كان لابدّ من إيجاد سبيل لخلق حالةٍ من التّوافق وإعادة التجانس إلى المجتمع، مع محاولة بناء جسور الثقة بين مختلف مكونات المجتمع. ولعلّ أكثر الخطوات صحةً باتّجاه تطبيق الديمقراطية كان تفعيل دور المرأة ضمن مختلف مفاصل الحياة، كواحدٍ من أكثر قوى التغيير فعاليةً واستعداداً، لتكون الخطوة الثانية والأهم كتابةُ عقدٍ اجتماعيّ جاء بمثابة أوّل دستورٍ ديمقراطي توافقيّ ليس في سوريا فحسب بل في الشرق الاوسط بأسره؛ حيث مدّ خيوط التآلف بين المكونات كافة وخلق أرضية مريحة لمزيد من التواصل الفعّال، لتأتي بعدها كل الخطوات التالية من إعلانٍ للإدارات بمجالسها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليعيشَ المجتمعُ حالةً فريدة من إدارة ذاتية لحياته اليومية، ولتنمو الإنجازات تباعاً وتتوسع رقعة المنضوين تحت سقفها، فأثمرت جوانب إيجابيّة كثيرة منها مساحة الأمان والطمأنينة الجيدة إلى حدٍّ ما، الاستقرار والانتعاش الاقتصادي المقبول نسبيا في الوقت الذي يلفُّ الدّمار والفقر والعوز الأجزاء الأخرى من سورية، المحافظة على الخصوصية القومية للشعب الكردي وغيره من المكونات الإثنية والقومية في المنطقة، والعمل على تطوير هذه الخصوصيّة وخاصةً من الناحية الثقافية. ولكن مثل كل المشاريع لا بدّ أن يكون هناك بعض السلبيات والنواقص، فكل البدايات جميلة ومزركشة والواقع قد لا يُناسِب الخيال، فكما أسلفنا أنّ تطبيق الديمقراطية محفوفٌ بالكثير من المخاطر إن لم يُمارَس بحذر، أقلّها أن تتحوّل إلى ديمقراطيةٍ استبداديةٍ مثلاً، و تنحرف عن مسارها المرسوم، أو أن تستلم الفئات غير المؤهلة زمام الامور، فتثمر مسوخاً مشوّهة، قد يكون ضررها كبيراً وتصبح عقبةً تحولُ دون التطور وتقلب الأمان هلاكاً، وهو ما يمكن أن نصادفهُ حولنا ويخلق شعوراً بألمٍ دفين لدينا، فالوقت لازال مبكراً لإرخاء زمام الأمور، والراحة لا تزال بعيدة المنال قياساً مع العقبات الكثيرة والتحديات الاكبر. يجب السّعي إلى المحافظة على التوازن بين المكونات وإصدار المزيد من القوانين المعزّزة لهذا التوازن ضمن إطار دولة المواطنة والمساواة المطلقة أمام القانون، فهذا لوحده من شأنه تعزيز الثقة وخلق الأمان، واللجوء إلى الخطط الاستراتيجية الطويلة الأمد وفق المعايير الأكاديمية التي تضمن الاستدامة في التنمية الاقتصادية ورفع مستوى دخل الفرد، والذي بدوره يدعم الاستقرار أيضاً. العمل على تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص على أساس الكفاءة في جميع الوظائف والقطاعات وأخيراً وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وحده يحقق التطوير، فأخطاء البدايات لم تعد مقبولةً اليوم، ولكن على الرغم من الأخطاء والنواقص فالتجربة رائدة و تستحق منا العناء، و قضية تطبيق الديمقراطية في مناطق شمال وشرق سوريا والمحافظة عليها، لا تخصّ فئة حاكمة فحسب بل هي قضية أرض وشعب، وهي فرصة تاريخية ربما لن تتكرر، والسبيل الوحيد لخلق حالة من التعايش المشترك دون حاجة إلى فقدان الهوية أو تغيير معالمها. على عاتق الجميع صغاراً وكباراً تقعُ مهمةُ ترسيخ أسس الديمقراطية وتحويلها إلى نهج حياة وطريقة عيش لا مجرد نظام سياسي يحكمنا، عندها فقط نستطيع أن نعيشها ونتغنى بها.