

تداعيات البعث على الفكر السياسي السوري
2020-09-09
ريزان رشو
أثارتْ الثّورة السّوريّة، عدّة إشكاليّات مُهمّة، ذات أبعادٍ مختلفةٍ في تأثيرها على الأوضاع العامّة، وخاصةً، تلك المتعلّقة بمختلف الجّوانب السّياسيّة أو الثّقافة السّياسيّة الجّامعة، وكيفيّة زرعها في نواة المجتمع السّوري. الثقافة التي كانت الأكثر تهميشاً في سجلّات المتابعين والمهتمّين لشأن الأحداث السّورية الدّامية؛ لما لها من تأثيراتٍ في حاضر ومستقبَل هذا الوطن المُنهَك تحت وطأة الحرب طيلة تسع سنوات، على أرضيةٍ نابعةٍ من ذهنيّة تتسم دائماً وأبداً بإحداث الشرخ والتفسّخ للروابط الجّامعة للتكوينات الأساسيّة في الجغرافيا السياسيّة السوريّة من قبل السلطة في سوريا.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة ظهرت شموليّة الثّقافة السّياسيّة البعثيّة وتأثيراتها على المجتمع السوري طيلة العقود الماضية؛ التي وضعت الفرد السوري في حالة من التّشتّت الفكري أمام مخرجاتها. فإذا كانت الميزة الواضحة لهذه الحرب على الصّعيد الإنساني النّزيفَ الدّموي الذي راح ضحيّته أكثر من مليون سوري، من مختلف الفئات العمرية، وفقدان أكثر من نصف السكان لمأواهم، فإنَّ السّمة المميّزة على صعيد السياسة المجتمعية لا تنحصر بتفكيك الروابط المجتمعية الأصيلة والأساسية للمجتمع السوري فحسب، بل تتعدى إلى تأطير الذهنية الجمعية وإقحام نهج البعث في وعي وسلوك السوريين منذ أكثر من خمسين عاماً.
تؤكد الوقائع المتعلقة بالتطورات الحاصلة في سوريا منذ الستينات أنّ الذهنية السياسيّة في سوريا لم تكن قادرة على إنتاج وبلورة الوعي السياسي وتطوير الثقافة السياسية، وظلّت تواجه أي فكرة سياسيّة خارج الإيديولوجية المنشودة للبعث بسلسلة من الإجراءات المتعلقة بالجانب الاقتصادي والأمني؛ من خلال وضع الفرد بين ثنائية السّعي وراء لقمة العيش والقبضة الأمنيّة العنيفة، لذلك عملت السّلطات السّوريّة طوال فترة حكمها على كيفيّة ضبط إيقاع المجتمع بما يتماشى مع النمطيّة السياسيّة الأكثر دوغمائيةً وتزمتاً؛ من خلال تلقين الطفل السّوري رسائل تفيد بألوهية البعث، وصولاً إلى إجبار الطُلاب الأكاديميين على الانتماء إلى هذا الحزب. وما قاله الأسد في إحدى خطاباته: "إننا نريد خلق مجتمع متجانس" يفيد بكينونة هذه الحقيقة البعثية، فالوضعية التي كانت قائمة في سوريا خلال العقود الماضية، قامت الثورة السورية بتعريتها من الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصاديةكافة، وكشفت أكذوبة التطوير والتحديث التي كان يدّعيها النظام.
في سوريا، لم يكن الاهتمام بالسياسية وتوعية المجتمع ضمن أولويات مؤسسات النظام، ذات العلاقة الوثيقة بهذه القضايا الهامة في أدبيات التطور السياسي والاجتماعي، ولم تتطور تلك المؤسسات إلى مستوى رسم الاستراتيجيات اللازمة للنهوض بالفرد والمجتمع. لم يكن غياب الاهتمام بهذه الإشكالية المحورية أمراً خارجاً عن الإطار الاعتياديّ للسّلطات السّورية. وما يؤكّد تاريخياً على الانعدام الكامل لاهتمام هذه المؤسسات بقضايا التّمكين السّياسي ورفع القدرات والتّنمية المُستدامة للمجتمع هو الضّعف الذي يتجلّى من خلال غياب المُعطيات المرتبطة بهذه الظاهرة المحوريّة الهامة. ومهما كانت الظروف التي تتحكم في سوريا والمعطيات المتعلقة بالتنمية السياسية المجتمعية في مرحلة الثورة، إلا أن المتابعة العملية إلى جانب القراءة الصحيحة للتاريخ السوري منذ ستينيات القرن الماضي تقود المرء إلى استنتاج حقائق سلبية فرضتها الظّروف التي مهّدت لولادة أفكار ورؤى سياسية عقيمة، وأدّت إلى تشتّت الكفاءات السورية في مختلف دول العالم.
وأمام هذا الواقع المأساوي والمتراكم منذ عقود، ووجود مؤشِّرات تدلُّ على تغيير الواقع السّياسي السّوري في المرحلة المقبلة، يأمل منها السوريون تغييراً حقيقياً يفضي إلى الاستقرار والعودة الكريمة والمشاركة السياسيّة في سوريا المستقبلية، لا بدَّ من الوقوف على ضرورة العمل الجمعي، التي كشفت عنها الثورة السورية، والتي كانت لها انعكاسات على الجماهير السورية، التواقة إلى تحقيق العدالة والديمقراطية وحرية الرأي في جميع المجالات الحياتية، مما ترك آثاراً سلبية على الحقل السياسي الناشئ بعد البدء بالحراك السلمي في بدايات الثورة وصولاً إلى يومنا الراهن. كانت الحالة السائدة قبل ذلك نوع من التصحّر السياسي لدى السوريين نتيجة القمع المُمارَس عليهم، أو ضعف الثقافة السياسة في عقود ما قبل الثورة. لذلك وفي محصلة مرور سنوات عجاف على السوريين، يبرز ضعف الوعي السياسي لدى القواعد الاجتماعية السورية كافةً من فقدان الثقة السياسية وحالة الانفصام بين المجتمع والسلطة، ولدى النظر إلى الإعلام المضاد كفكر وآلية وأداة للتأثير وتكوين الرأي العام، نجد الضعف أو التصحر السياسي لدى شرائح واسعة من السوريين بكل بوضوح وجلاء.
لا بد للمجتمع من أن يبدأ بمعايشة التغيير السياسي، والأهم من ذلك أن يقوم بممارسته على الصعيد العملي، والتدريب على التطوير والمشاركة على مختلف الأصعدة والمستويات، عبر الحملات التوعوية ضد شتى المخاطر التي تدحض وتهمّش وجودها السياسي كأحقية عادلة، وبشكل متزامن ومستمر مع الأحداث، وخاصةً في ظلّ قوى التغيير وسرعتها والعصرنة في الأفكار، وإكساب الفئات المجتمعية القدرة على إدراك وفهم المتغيرات العالمية وتأثيراتها على الأفراد، وبذلك يستطيع المجتمع إزالة حالة الانفصام في المستقبل، بينه وبين أي سلطةً تحكمه، بحيث يكون قادراً في التأثير عليها بما يتوافق مع ثقافته وإراداته، عبر الحس بالمسؤولية الوطنية المستوحاة من الثوابت والمرتكزات النهضوية المجتمعية.
لذا فإن أهمية الوعي والتأهيل السياسي تكمن في فهم وإدراك ما يجري في العالم على جميع الصّعد والقدرة على كيفية درء المخاطر الناجمة عن هذه التغيرات والاستفادة من الإيجابيات وتحقيق النهضة المجتمعية في وسط هذا الطوفان من عالم السرعة.
