

العنف الأسري إذ يتحوّل إلى نمطٍ اجتماعيّ
2020-11-25
آريا أومري
لا يمكن الحديث عن العنف، في سياق فهمه كتعريف، وهويّة دالّة على مجموعة من التصرّفات والأفعال التي يمارسها الأفراد في المجتمع، دون أن يتمّ فهم ودراسة، وتعمّق، في الهويّات الاجتماعيّة والدينيّة والاقتصاديّة وأدوار وأنماط الرّجال والنّساء في صناعة هذه المسألة، وتفعيلها اجتماعيّاً.
في سوريا وعلى وجه الخصوص في مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة، ثمّة أسباب متداخلة بشكلٍ بالغ التّعقيد في صناعة الهويّة العنفيّة ضدّ المرأة في المجتمع؛ لأنّه ثمّة أسباب موضوعيّة ساهمت في تشكيل هذه الهويّة، بتراكمات تاريخيّة وفكريّة ومعرفيّة طويلة الأمد. يشكّل الدين، إحدى أهمّ وأبرز الأسباب الّتي تبيح العنف، أو أن تفسيرات الدين في المجتمع تبيح ذلك؛ فالعامل الدّيني يلعب دوراً أساسيّاً في العنف ضدّ النساء، لسببين أساسيين؛ أوّلهما، أنّ الدين شكّل مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعيّة الّتي أباحت ورسّخت فكرة الاستبداد الذّكوريّ على النساء، ومنح الأدوات والتّبريرات التي تؤسّس لفكرة أن الرجال قوّامون على النساء، ومتحكّمون بمواردهم الذهنيّة والفكريّة والمعرفيّة والحياتيّة وثانيهما؛ أنّ العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعيّة الّتي وجدت في هذا المجتمع، كان الدين مصدرها التّشريعي الرئيسي، وعلى وجه الخصوص في قضايا النّساء؛ إذ أنّ الجزء الأعظم من هذه الأعراف الاجتماعيّة، تستند في تطبيقها وتوثيقها ضمن المجتمع على الأحاديث والآيات القرآنيّة الّتي أباح من خلالها رجال الدين والملالي- بحسب تفسيراتهم- العديد من المسائل التي فاقمت العنف بحق النساء كتعدّد الزوجات وحصة المرأة من الميراث وحصر النساء في مجالات عمل محددة.
غير ذلك، لا نستطيع أن نتجاهل الدور المحوري الذي تلعبه الحالة القبليّة العشائريّة، في المنطقة، في زيادة حمولة العنف الموجّه ضدّ النساء، من جهةِ ترسيخ عادات وتقاليد اجتماعيّة هي في جوهرها من صناعة العشيرة نفسها، تفسح المجال أمام الرجال في التحكّم بالنساء، وتمنح النساء دوراً هامشيّاً في وجودهنّ الاجتماعيّ والأسريّ.
ربّما، لدى المتتّبع، لظروف وأحوال العنف في شمال وشرق سوريا، وعموم سوريا، تكون هذه المفاهيم والأسباب والتقلّبات الّتي طرأت على المجتمعات في التسلسل التّاريخيّ، مفهوماً، لأنّها أسباب تكون مرئيّة غالباً، ويتم التباحث والتّعاطي بها في العيان. المختلف في ذلك، أنّ ثمّة أشكال غير ذلك من العنف، ولا يتم التّعاطي فيها، والحديث عنها، وفي بعض الأحيان، لا يعتبر المعنِف أو المعنَف ذلك عنفاً؛ إضافةً إلى اقتصار اعتبار العنف والثّقافة الذكوريّة هويّة فكريّة محدّدة للرجال، ومن صناعة الرّجال وهم الّذين رسخوها في المجتمع.
من نافلة القول أنّ هذا الحديث، يقودنا، لنقاش فكرة العنف الأسري، وفكرة دور النساء في بلورة الهويات الجندريّة والذّكورية المؤديّة إلى العنف ضد النساء، وإلى سلطويّة الرجال في المجتمع. فالعنف، تعبيراً، وأسباباً وتشكلاً، غير مقتصرٍ على جنسٍ بشريّ محدّد، وليس الرجال وحدهم يصنعون العنف ويحوّلنه إلى حدث اعتيادي في المجتمع، بل أنّ النساء يلعبن دوراً في ذلك، ويؤسّسن لثقافة العنف المباح والتسلّط الذكوري بحق النساء، وهذا يُمكن التّعبير عنه بأكثر من توضيح؛ النّساء يستلمن مسؤولية التّربية والتّعليم والتنشئة الاجتماعيّة الأوّلية للأطفال أكثر من الرجال، وغالباً ما تقوم هذه التربية، منذ الولادة، ويتم تعميق الثقافة الجندرية في العائلة، ويُحدد من خلالها أنماط وأشكال الحياة للأطفال الذكور والإناث في المجتمع.
الجانب الآخر، غالباً، النساء ايضا، يتبنّين المفاهيم الذكورية في المجتمع، سواء لأسباب دينية أو اجتماعيّة،
كما يلعبن دوراً أساسياً لا يقل عن دور الرجل في تنشئة العنف بحق النساء. وبالتّالي، تعميق السلطة الأبوية على النساء، التي تتيح العنف الأسري.
حال الأمر، العُنف الأسريّ، ربّما، من أكثر أشكال العنف الّتي لا يتمّ الإبلاغ عنه، والإجهار بوجوده، وهذا لا يعود إلى طبيعة المجتمع، وتحفّظاته، فحسب. بل لأنّ هذا النّوع من العنف، لا يزال غير مفهوماً، وغالباً تكون المرأة المعنّفة، الشّريكة أو الأمّ أو الأخت، تتعرّض للعنف، دون أن تفهم أنّ ما حدث عنف، وهذا يعود، بطبيعة الحال، إلى ضعف الدّور التّوعوي المدنيّ والإعلاميّ والقانونيّ، في تقديم طروحات تكون مُساهمة في فهم سياقات العنف وأشكالها وأنماطها والأوجه الّتي ربّما تظهر داخل الأسرة والمنزل.
أمّا السّياق الآخر في هذه المسألة، هو أنّ هذا النّوع من العنف، تعرّض لتقزيم في الصور النمطية والذاكرة الجمعيّة في المجتمع؛ انطلاقاً من فكرة أنّ ما يحدث وهو العنف، ليس عنفاً، بل مشكلة أسريّة، يمكن أن تحدث داخل أيّة أسرة، وضمن المعاملة والرّوتين اليوميّ.
وفي مطلق الأحوال، لا يمكن تأطير هذا النّوع من العنف في مجالٍ تعريفي محدّد، لأنّه يحتمل أكثر من وجه، وهو أعمق من أن يكون عنفاً جسديّاً يتمثّل بالاعتداء والضّرب أو لفظّياً بالإساءة الكلاميّة والتنمّر والكراهية؛ ذلك أنّ هذا النوع من العنف تحديداً، ربما يكون جنسيّاً كذلك، وربما يكون اقتصاديّاً من خلال الحصار الاقتصاديّ الدّاخلي للمرأة، وتوبيخها في ذلك. لم يسبق أن شهِدت مناطق الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، وعموم سوريا، إجهاراً بوجود حالة اغتصاب من زوج لزوجته، ووفقاً لسياق فهم القوانين، وفهم الذائقة الجمعيّة للمجتمع السّوري عموماً، فإنّ اغتصاب الزّوج للزّوجة والإكراه على المعاشرة الجنسيّة لا يمكن تصنيفه عنفاً، وغالباً، سيتمّ التطرّق للمسألة من باب السّخريّة ليس إلّا.
زِد على ذلك، فإنّ التنظيمات والجمعيات النسوية السورية في شمال وشرق سوريا، وعلى وجه الخصوص التنظيمات والجمعيات الحزبية التابعة أو المقربة من السلطة، تساهم أحياناً في تنميط العنف، وتحويله إلى مسبب، لتمرير التطرّف وصناعة العنف ضد الآخر المختلف جنسياً، من طرفي المجتمع الرجال أو النساء أو الأشخاص المختلفين جنسياً. فهذه التنظيمات تأسس لفكرة تبادل الأدوار السلطوية في المجتمع وفي القيادة، وبالتالي المساهمة في إلغاء فكرة الحقوق والواجبات والمساواة الكاملة في القانون بين الرجال والنساء.
في السياق ذاته، لا تبدو القوانين، المتعلقة بالمرأة ملائمة، أو بصورة أوضح لا تبدو أنها تتجه نحو التطبيق، وربما تساهم في فهمٍ خاطئ لدور المرأة في المجتمع، فوجود قوانين لا يتم تطبيقها في ظل تطبيق قوانين عرفية اجتماعيّة يوسّع الهوّة في الطريق نحو سيادة القانون حول قضايا المرأة. مثالاً؛ في قضايا التحرّش أو العنف اللفظي أو تعدّد الزوجات، تملك الإدارة الذاتية قوانيناً رادعة، لكن هذه القوانين تفشل تحت وطأة الأعراف الاجتماعيّة التي ربما تتساهل أمام هذه القضايا لأسباب متعلقة بمسائل الشرف أو الثأر أو الثقافة الاجتماعية السائدة عموماً.
تالياً؛ لا يمكن أن يُزال العنف، بأشكاله الحاليّة بسهولة او بشكل سليم وفق الشروط والظروف الموجودة، لأنّ كل الأطراف التي تعنى بهذا الشأن، تتدخّل بشكلٍ سلبي، وغير فعّال، وبعمل مجزأ غير منضبط وربما غير مستند لمعرفة متكاملة ولقناعة. سيكون من المهم أن تتواجد هذه المفاهيم في الكتب التعليمية المدرسية وفي الدروس الجامعيّة، وأن تتبنّى الجمعيات والمنظمات المدنيّة، أساليب مطلبية، تسهم في تطوير المساواة بين الرجال والنساء، فضلاً عن دور الإعلام والقوانين الّتي يجب أن تتفعل وتتفاعل مع أحوال وظروف النساء.
